القرآن الكريم مصدر إلهامنا في كفاحنا الفكري من أجل الإسلام
بقلم : الاستاذ عمر بلقاضي
***
يقول عز وجل : " فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا "( 52 الفرقان
قال ابن باديس رحمه الله في معنى هذه الاية :" .... ولا تطع الكافرين أعداء الله وأعدائك في أي شيء يدعونك إليه من مقتضيات كفرهم كالرجوع إليهم والسكوت عن بعض كفرهم وابذل كل جهدك في دعوتهم للدين الحق ومقاومة ما هم عليه من الباطل بالقرآن العظيم, وجاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا, بتحمل كل ما يأتيك من ناحيتهم من بلاء واذاية, والصبر عليه والثبات على الدعوة والمقاومة " (م.ت - ص 265)
وقال رحمه الله مستدلا بهذه الاية :" هذه الآية نص صريح في أن الجهاد في الدعوة الى الله وإحقاق الحق من الدين , وإبطال الباطل من شبه المشبهين وضلالات الضالين , وإنكار الجاحدين هو بالقرآن العظيم , ففيه بيان العقائد وأدلتها , ورد الشبه عنها , وفيه بيان الأخلاق و محاسنها ومساويها ,
وطرق الوصول الى التحلي بالأولى , والتخلي عن الثانية ومعالجتها , وفيها أصول الأحكام وعللها , وهكذا فيه كل ما يحتاج إليه المجاهد به في دين الله فيستفاد منها كما يستفاد من آيات أخرى غيرها أن على الدعاة والمرشدين أن تكون دعوتهم وإرشادهم بالقرآن العظيم " (م.ت – ص 266)
وقال رحمه الله تحت عنوان –اهتداء- في تفسيره لقوله تعالى : " وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئنَاكَ بِالحَقِّ وأحسن تفسيرا "
" إذا تتبعت آيات القرآن وجدتها قد أتت بالعدد الوافر من شبه الضالين واعتراضاتهم ونقضتها بالحق الواضح والبيان الكاشف في أوجز لفظ وأقربه وأبلغه , وهذا قسم عظيم جليل من علوم القرآن يتحتم على رجال الدعوة والإرشاد أن يكون لهم به فضل عناية ومزيد دراية وخبرة . ولا نحسب شبهة ترد على الإسلام إلا وفي القرآن العظيم ردها بهذا الوعد الصادق من هذه الآية الكريمة فعلينا عند ورود كل شبهة من كل ذي ضلالة أن نفزع الى آي القرآن , ولا أخالنا إذا أخلصنا القصد وأحسنا النظر إلا واجديها فيها وكيف لا نجدها في كتاب ربنا التي هي الحق وأحسن تفسيرا " (م ت- ص 260)
وقال رحمه الله ناصحا الدعاة والمربين بالاعتماد على القرآن في تعليم العقائد
" ...... فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائدها الدينية وأدلة تلك العقائد من القرآن العظيم إذ يجب على كل مكلف أن يكون في كل عقيدة من عقائده الدينية على علم , ولن يجد العامي الأدلة لعقائده سهلة قريبة إلا في كتاب الله , فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه , أما الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة ذات العبارات الاصطلاحية فانه من الهجر لكتاب الله وتصعيب طريق العلم الى عباده وهم في أشد الحاجة إليه, وقد كان من نتيجة هذا ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه "
ويقول ايضا : ومما ينبغي لأهل العلم أيضا – إذا أفتوا أو أرشدوا – أن يذكروا أدلة القرآن والسنة لفتاويهم ومواعظهم ليقربوا المسلمين الى أصل دينهم ويذيقوهم حلاوته , ويعرفوهم منزلته ويجعلوه منهم دائما على ذكر, وينيلوهم العلم والحكمة من قريب ويكون لفتواهم ومواعظهم رسوخ في القلوب وأثر في النفوس . فإلى القرآن والسنة – أيها العلماء – ان كنتم للخير تريدون " (م ت – ص 142)
ويقول رحمه الله تحت عنوان فرعي- بشارة : " وقد وعد الله تعالى نبيه بعدما أمره بالتأسي والصبر بالهداية والنصر – وفي هذا بشارة للدعاة من أمته من بعده السائرين في الدعوة بالقرآن والى القرآن على نهجه أنه يهديهم وينصرهم كما قال تعالى : " وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ " معهم بالفضل والنصر والتأييد وهذا عام للمجاهدين المحسنين والحمد لله رب العالمين "(م ت – ص 253)
لقد تعمدت الإكثار من الشواهد من كلام الإمام رحمه الله, ليعلم القائمون على الدعوة, المتصدرون لمجالسها ومنابرها ,المسئولون على هيئاتها ووسائلها السر في نجاح بعض الدعاة دون بعض , السر في نجاح ابن باديس واصحابه رحمهم الله في التأثير وإحداث التغيير رغم مضايقات الاستدمار وقلة الوسائل, وفشل دعاة اليوم على كثرة عددهم ووفرة وسائلهم وحرية نشاطاتهم الدعوية في إنقاذ الأمة من مهاوي الزيغ والضلال , السر هو أن الدعاة الناجحين حصروا دورهم الدعوي في ترجمة معاني القرآن الكريم وتنزيلها على الواقع مستلهمين منها الحلول للمشاكل , والأدوية للعلل , والوسيلة في الإصلاح , والذخيرة في الكفاح , والمعارف للرؤوس, والعلاج للنفوس , فأفادوا وسادوا , أما الدعاة الفاشلون فقد فشلوا لأن دعوتهم صارت عبارة عن لي للألسنة وعبث بالأقلام , واستعراض لقدراتهم في التحليل والكلام , ليقال عنهم أنهم فطاحله وأعلام , تجد الواحد منهم يلغط الساعات خاطبا , ويسود الصفحات كاتبا , فما تكاد تعثر على آية أو حديث فيما خطب أو كتب , فهل هذه دعوة الى الإسلام أم استعراض للكلام ؟ انه التقديم بين يدي الله ورسوله والهجران للقرآن .
قال تعالى : " يَأيُّها الذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيم ٌ" ( الحجرات 1)
وقال سبحانه: " وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذاَ القُرْآنَ مَهْجُورًا " ( 30 الفرقان)
ألا فلننهض الى جهاد فكري جاد , بكتاب رب العباد , ينفعنا يوم المعاد , ولندع الترف الفكري فالظرف غير مناسب , لنجعل القرآن منطلقنا وغايتنا ووسيلتنا في دعوتنا الى الله ودفاعنا عن الإسلام .
ان المطلوب منا في دعوتنا الى الله هو أن نظهر للناس الأفكار والحجج والإحكام والحكم والأخلاق التي احتوى عليها القرآن بالعبارة القرآنية, مع تفسيرها ان كان المدعو منا, أو ترجمتها ان كان من أمة أخرى, ومحاجة الكفار بحججه, والرد على شبهاتهم وطعونهم بردوده , ووزن كتبهم وعقائدهم بميزانه , ومجابهتهم بما فيه من توجيهات تكرس حقوق الإنسان , وتطور العلوم والاقتصاد و العمران , وتقيم السلم العالمي والحوار الحضاري , وتمنع الفساد الاجتماعي والخلقي , و تحارب الاستعلاء العنصري والطبقي .
وأن ندلهم على ما فيه من حلول لمشاكل ومآسي البشرية في عصرنا كالحروب , الفقر , البطالة , العنوسة , الانتحار , الشقاء النفسي من قلق وخوف من المجهول , التوحش الرأسمالي , الاستبداد في الحكم , الجريمة والظلم , وحتى التلوث البيئي والاحتباس الحراري والسيدا .
وأن نبرز بالدليل القاطع من آياته, ومن حقائق التاريخ , وكتب العلماء من أمتنا ومن الغربيين المنصفين, دوره الأساسي في بعث الحضارة العلمية الحديثة , فالمنهج التجريبي في البحث العلمي الذي هو أساس النهضة العلمية منذ عهد الحضارة الإسلامية مصدره توجيهات القرآن الكريم الداعية الى التفكر في سنن الكون وظواهره ومخلوقاته ( أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وإلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفعت وَإلَى الجِبالِ كيفَ نُصِبَتْ وَإلَى الأَرْضِ كَيفَ سُطِحَتْ ) والتحري والتثبت في ميدان المعرفة(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه ِعِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ والفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كاَنَ عَنهُ مَسْئُولاَ ) وعدم الأخذ بالظن فبل التمحيص (إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيئاً) والبرهنة على الادعاءات (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )
وأن نركز شديد التركيز – أقول شديد التركيز – على إبراز الجوانب الاعجازية فيه : الإعجاز البلاغي واللغوي , الإعجاز العلمي , الإعجاز التشريعي و الإعجاز النفسي ... حتى يكون العلم بحقيقة الإعجاز القرآني ثقافة سائدة في المجتمع المسلم , ووسيلة رائدة في الدعوة الى الإسلام والدفاع عنه , إنها معجزاته الدامغة الخالدة , فلم التغاضي عنها والتقليل من شأنها في الدعوة والمجاهدة ؟؟؟
لننظر الآن في جانبين من جوانب هذا الإعجاز: الإعجاز اللغوي والإعجاز العلمي
أولا : الإعجاز اللغوي : من غير أن أخوض في فنون الفصاحة والبلاغة والبيان وموقع كل ذلك من القرآن, آخذ الأمر ببساطة مقتصرا على مسالة التحدي القرآني فأقول :
ان القرآن الكريم يتحدى البشر بالعبارة الصريحة المكررة المفيدة للتأكيد والتأبيد أن يقدروا على الإتيان بسورة من مثله , ولو تعاونوا كلهم على ذلك , بل حتى لو تعاونوا مع الجن
يقول تعالى : " قل لئن اجتمعت الإنس والجنُّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (الاسراء 88)
ويقول ايضا " أم يقولون تقوَّله بل لا يؤمنون , فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين "(الطور 23 -23)
ويقول سبحانه: " أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين " ( هود 13 )
وها هو التحدي الصارخ القارع المبكت للكفار الكتابيين والمشركين والملحدين والمرتدين والشاكين
يقول عز وجل : " وان كنتم في ريب مما نزَّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتَّقوا النَّار التي وقودها النَّاس والحجارة أُعدَّت للكافرين " ( البقرة 23- 24 )
فهل استثمرنا هذا التحدي في الدفاع عن العقيدة الإسلامية والدعوة إليها ؟ هل صدعنا به في كل محفل وعلى كل منبر في الخطابة أو الكتابة وفي كل فرصة أو مناسبة ؟ أم بكمتنا قلة الثقة في وعد الله( أم ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ) فلنتحقق من إيماننا إذن ولنتجنب منابر الدعوة قبل أن نتأكد من أننا موقنون, ففاقد الشيء لا يعطيه .
ثانيا:الاعجاز العلمي : من غير أن أخوض أيضا في شرح المصطلحات أقول : ان الأمر الشائع الذي يعتد به الناس في عصرنا ويعد سمة هذا العصر هو ( تطور العلم والاكتشافات العلمية ) فالعلم لغة التفاهم المشتركة بين كل شعوب العالم اليوم , وبه تفهم حجج القرآن وبراهينه , فالياباني أو الصيني أو الأمريكي مثلا يستطيع أن يتملص من الإعجاز اللغوي بحجة أنه لا يفهم العربية ولا يحسنها , لكن إذا أعلم أن الكثير من أدق الحقائق العلمية المكتشفة حديثا , والتي ما توصل إليها الإنسان المعاصر إلا بعد جهود مضنية وباستعمال أجهزة حديثة معقدة, ذكرت في القرآن بوصف أدق وأوجز من الوصف العلمي الحديث فانه لا يجد مناصا من الاعتراف بالحق , ومن أمثلة الحقائق العلمية التي جاءت في القرآن ثم توصل العلم الحديث الى اكتشافها مايلي : مراحل تطور الجنين في بطن الأم , السبب في جنس المولود , تخلق العظام قبل العضلات أثناء تكون الجنين , نشأة الكون وتوسعه ومصيره , جذور الجبال ودورها في توازن الأرض , كروية الأرض , دور الرياح في تلقيح النبات والسحب , تفصيل ظاهرة نزول المطر والبرد , دور اليخضور في صناعة الغذاء في النبات , تكون اللبن في الثديات من بين فرث ودم , الجلد مركز الإحساس, البرزخ والحجر المحجور والأمواج الداخلية والظلمات في البحار والمحيطات , الأصل السماوي للحديد , الشمس مصدر الضوء والقمر عاكس له فقط . .... والأمثلة كثيرة جدا وفي كل المجالات والتخصصات العلمية , هذا فضلا عما في القرآن الكريم من تنبيه بالإشارة والتلميح والتصريح لافتا الأنظار والعقول الى ما في الكون من دقة وإحكام وحكمة في الخلق تدل على الخالق العظيم الحكيم .
لا شك أن أي عالم نزيه يحترم الدليل العلمي يطلع على هذه الحقائق سيصرخ بانفعال وتأثر قائلا : انه كلام رب العالمين ,لأنه يستحيل علميا وتاريخيا أن يكون كلام بشر ومن عصر كعصر الرسول صلى الله عليه وسلم , خاصة إذا علم أن من ينسب إليه هذا الكتاب أمي لم يدخل مدرسة قط , و أن القرآن نفسه يتضمن آيات تتنبأ بأن الإنسان سيتوصل الى معرفة حقائق في الكون تثبت له أن هذا القرآن هو كلام خالق الكون وليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتَّى يتبيَّن لهم أنَّه الحقُّ أوَ لم يكف بربِّك أنَّه على كلِّ شيء شهيد " ( 53 فصلت )
وقوله سبحانه : " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربِّك هو الحقُّ " ( سبا 6)
ان العلماء العاملين والدعاة المخلصين كانوا حريصين على تتبع الاكتشافات العلمية واستغلالها في الدعوة الى الله والاستدلال بما كان منها موافقا لما جاء في القرآن على أن هذا القرآن كلام الله عز وجل رغم قلة تلك المكتشفات في زمانهم , منهم الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله , و إليك فقرة من تفسيره( مجالس التذكير )
يقول رحمه الله : " القرآن كلام الله ووحيه , ودليله أنه حكيم , فما فيه من العلم وأصول العمل لا يمكن أن يكون إلا من عند الله في عقائده ودلائلها وأحكامه وحكمها وآدابه وفوائدها , الى ما فيه من حقائق كونية كانت مجهولة عند جميع البشر , وما عرفت لهم إلا في هذا العصر الأخير , ومن أشهرها مسألة الزوجية الموجودة في جميع هذا الكون حتى أصغر جزء منه وهو الجوهر الفرد
المركب من قوتين موجبة وسالبة , جاءت هذه المسألة في آيات كثيرة منها ( ومن كلِّ شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكَّرون ) ومنها مسألة حياة النبات التي جاءت في مثل قوله تعالى ( وجعلنا من الماء كلَّ شيء حي ) ومنها مسألة تلاقح النباتات بواسطة الرياح التي تنقل مادة التكوين من الذكر الى الأنثى , جاءت في آيات كثيرة منها قوله تعالى : ( وأرسلنا الرياح لواقح ) فهذه حقائق علمية كونية أجمع علماء العصر أنها من المكتشفات الحديثة ولم تكن معلومة عند أحد من الخلق قبل اكتشافها ولا كانت عندهم الآلات الموصلة الى معرفتها . وكفى بهذا القليل من الكثير دليلا على أن هذا القرآن ما كان إلا من عند الله الذي خلق الأشياء ويعلم حقائقها . "