ما هو الكذب؟
الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الكذب: هو عدم التطابق بين أمرين: أحدهما ذاتي، اعني كونه راجعاً إلى الفرد نفسه. كالقول والفعل والقصد والوعد وغير ذلك مما يأتي.
ويمكن بيان عدم التطابق هذا على مستويات كثيرة جداً:
فالقول الخبري، أو الجملة الخبرية قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة. وهذا هو فرق الخبر عن الإنشاء الذي لا يكون قابلا لهذا التقسيم بذاته.
وكذب القول: هو عدم مطابقته للخارج. سواء كان الخارج ماضياً أو حاضراً أو مستقبلا. فالكذب عن الماضي هو المعنى المشهور بين الناس كما لو قلت: حصل كذا، ولم يحصل، ومثله الحاضر وكذلك المستقبل كما لو قلت: ستنجح زراعتي أو تجارتي ولم تنجح فيكون كذبا، سواء كان هذا القول بقصد الإخبار أو التفاؤل أو حتى التشاؤم.
ومثل القول في الصدق والكذب ما أغنى عنه عرفاً، كالإشارة وبعض الحركات ذات الدلالة، فإنها إن لم تطابق الواقع كانت كذبا، سواء كانت عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل.
ولا فرق لدى الواقع الذي لا يطابقه القول بين أن يكون واقعاً خارجياً ـ أي خارجاً عن الذات ـ أو واقعاً في داخل الذات، كالتعبير عن الاعتقاد أو الرأي أو الحالة النفسية كالفرح أو الغضب مثلا. فان التعبير على خلاف ذلك القول أو الإشارة يكون كذبا.
ولا نريد بالإشارة كونها من أقسام (الفعل) الذي سيأتي انه يصدق عليه الكذب أيضا، وان كانت هي من الأفعال إذ ليست صوتاً أو قولاً وإنما هي من الدوال النائبة مناب القول والقائمة مقامه. بدليل إنها قد تنقسم إلى خبر وإنشاء. فالإشارة المراد بها الخبر خبر، والإشارة المراد بها الإنشاء إنشاء.
وبالرغم من إن الإنشاء يخلو (بذاته) كما قلنا عن معنى الصدق والكذب، وهو فرقة الأساسي عن الخبر، إلا أنهم قالوا بانطباق هذا المفهوم عليه أيضا، بما فيه من دلالة التزامية أو ثانوية. فلو قال: اعطني. فهو يعني: أنا محتاج وان قال: اعنَّي. فهو يعني: أنا ضعيف. وان قال: أطعمني. فهو يعني: أني جائع وهكذا.
ويمكن تعميم ذلك إلى كل أشكال الإنشاء وليس الأمر وحده كما مثلنا. فلو تمنى من دون قصد التمني أو تعجب بدون قصد التعجب كان كذباً، وكذلك لو أوقع عقد البيع أو الإجارة أو الهبة صورياً من دون قصد جدي أو حقيقي إليه، فانه يكون كذبا.
فهذا كله من الكذب بالدلالة القولية، سواء كان صوتاً أو إشارة.
وقد اشرنا إلى إن الإنشاء الذي قلنا بصدق الكذب عليه أحيانا. كما قد يكون بالقول قد يكون بالإشارة أيضا. إذن، فالتقسيم الذي يصدق على القول على سعته، يصدق على الإشارة أيضا.
والكذب كما يكون بالدلالة القولية، يكون بالفعل أو بالإعمال أيضا، من باب عدم مطابقتها للقول تارة وللقصد أخرى وللاعتقاد ثالثة وللهدف رابعة فضلا عن عدم مطابقتها للواقع أيضا.
إما عدم مطابقة الفعل للواقع كما لو زرت شخصاً فلم تصادفه في بيته، ولو علمت بذلك لما زرته.
وأما عدم مطابقته للقول فواضح، كما لو قلت: سأسافر غداً ولم تسافر. وأما عدم مطابقته للهدف، كالتاجر الذي يبيع بتسامح مع إن قصده الربح الوفير، وكالمؤمن الذي يتسامح في مزيد الطاعة، مع انه قصد مزيد الثواب.
والقصد إن كان هو الهدف فقد مثلنا الآن. وان كان غيره كقصد تفهيم أمر معين، لكن يختار المتكلم غيره، فيكون كذباً.
والاعتقاد، يراد به الاعتقاد النظري، كالاعتقاد بالمبادئ العليا والدين ونحوها، فان بيان خلافها بالقول أو بالفعل. يكون من الكذب، سواء كانت حقاً، أو باطلا، في حد ذاتها.
فان كانت باطلة، كان القول كذباً من وجهين، من جهة عدم مطابقته للاعتقاد وعدم مطابقته للواقع. وان كانت حقاً، كان القول كذباً من جهة مطابقته للاعتقاد إِذَا جَاءكَ]وصدقاً من جهة مطابقته للواقع. وهذا هو الذي ورد عليه قوله تعالى: الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ( )،[إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ يعني من حيث عدم المطابقة بين قولهم واعتقادهم.
وكذلك الحال في عدم القول أو الفعل للرأي. فان الرأي إن كان هو الاعتقاد، فقد تحدثنا عنه. وإن كان هو أوسع منه، لأنه يشمل كل القناعات حتى في الأمور البسيطة والتطبيقية. إذن، فسيكون بيان ذلك بالقول على خلاف القاعدة أو العمل على خلاف القناعة كذباً، لا محالة.
ومن هذا كله يمكن أن نخلص إلى إمكان تقسيم الأمور إلى أربعة أقسام رئيسية: قول وفعل وواقع نفسي وواقع خارجي. وإذا وقعت المفارقة أو عدم التطابق بين أي اثنين من هذه الأربعة كان الكذب صادقاً: بين القول والقول أو القول والفعل أو القول والخارج أو القول والباطن أو الواقع النفسي.
وكذلك بين الفعل والقول أو الفعل والفعل الآخر أو الفعل والخارج أو الفعل والباطن.
وليس قولنا: تارة بين القول والفعل وتارة بين الفعل والقول، بمنزلة التكرار، بل هو يختلف باختلاف الألفاظ باعتبار ما نريد وصفه بالكذب تارة من قول وفعل إذ قد يكونان معاً كاذبين مع تطابقهما.
وكذلك: الواقع النفسي مع واقع نفسي آخر، كالجبن مع الشجاعة أو مع القول أو الفعل أو مع الخارج، كما سبقت أمثلته.
وقد يناقش في تسمية عدم المطابقة بين الواقعين الباطني والظاهري كذبا، لانعدام الدلالة عندئذ، والكذب إنما هو من أوصاف الدلالة.
قلنا: لَيْسَ]أولا: إن الكذب ليس مع الدلالة فقط، بل صادق بلا دلالة كقوله تعالى: ( ).[لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
وثانياً: إن الدلالة في الواقع النفسي قد تكون متحققة. فالعلم يدل على المعلوم والخوف يدل على المخوف منه والغضب على الكراهة وهكذا. فان لم تكن هذه الأمور مطابقة للواقع كانت كذباً، ويسمى العلم غير المطابق للواقع بالجهل المركب. ويمكن توسيع معنى العلم هنا إلى مطلق للقناعة وللوثوق وللظن الراجح مع عدم المطابقة للواقع الخارجي أو الواقع النفسي.
وقد يستشكل على تعريفنا للكذب بأنه عدم التطابق بين أمرين أحدهما ذاتي. في حين إن قوله تعالى: ليس فيه أمر ذاتي بل هو حاصل سواء كان هناك مدرك[لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ] أم لا، وسواء كان هناك ناطق أم لا وسواء كانت دلالة أم لا.
ولكن يمكن أن يجاب ذلك بعدة أمور:
أولا: إن الآية الكريمة قد تكون بمعنى إن يوم القيامة حق وكل من يعبر عنه أو يدل عليه دلالة فهو صادق وغير كاذب. فانتفى الإشكال.
ثانيا: انه ربما يكون معناها، إن محاسبة الأعمال يوم القيامة لا يكون بالكذب والافتراء. أي ان ينسب إلى الفرد ما لم يعمله أو لم يقله بل ما قاله وفعله. إذن، فالدلالة على أعمال العباد أيضا موجودة لا كما قال المستشكل.
ثالثا: انه ربما يكون معنى الآية الكريمة ان وقوع الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة. إنما هي لأجل العقوبة على أعمال العباد أو إيقاع البلاء عليهم نتيجة لسوء تصرفهم. فيكون معنى الكذب هنا هو عدم انطباق العقوبة على الذنب بمعنى عقاب غير المذنبين. فإذا لم تكن الواقعة كاذبة، كما صرحت الآية، كان العقاب على المذنبين لا محالة. ولكن الكذب هنا بهذا المعنى مجاز لا حقيقة، باعتبار ان المفارقة هنا تشبه من بعض الجهات مفارقة الكذب فصح استعمالها مجازاً، وإنما يكون كذباً حقيقة مع وجود دلالة ذاتية كالقول والفعل والاعتقاد والقصد ونحو ذلك، وكلها ذات دلالة بمعنى وآخر.
هذا وهناك استعمال كذّبه بالتشديد وكذب عليه.
وهما متقابلان في أكثر الأحيان. فهذا كذب على ذاك وذاك يكذبه. وعلى أي حال، ففيهما لابد من وجود طرف آخر، هو الذي يكذّب –بالتشديد- أي يعتبر قول الآخر كاذبا، بأحد الأشكال السابقة وان كان الغالب هو اعتباره كاذباً بالمعنى العام أي في مفارقة قوله مع الواقع وكذلك الآخر هو الذي يكذب على صاحبه بأحد الأنحاء السابقة من الكذب وان كان هذا المعنى المشهور هو الغالب. وعلى أي حال، يحتوي هذا العمل على نحو من المكر والخديعة والتغرير. وإلا لما كان للكذب مجال معقول.